فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} أي اختلقوا وافتروا، ويقال خرق الإفك وخلقه واختلقه واخترقه واقتلعه وافتراه وخرصه إذ كذب فيه قاله الفراء، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له بنين وبنات، وقال قتادة ومجاهد وابن زيد وابن جريج: {خرقوا} كذبوا وأشار بقوله: {بنين} إلى أهل الكتابين في المسيح وعزير، {وبنات} إلى قريش في الملائكة، وقرأ نافع {وخرقوا} بتشديد الراء وباقي السبعة بتخفيفها، وقرأ ابن عمر وابن عباس وحرفوا بالحاء المهملة والفاء وشدد ابن عمر الراء وخففها ابن عباس بمعنى وزورا له أولادًا لأن المزوّر محرف مغير للحق إلى الباطل، ومعنى {بغير علم} من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطاب وصواب، ولكن رميًا بقول عن عمي وجهالة من غير فكر وروية وفيه نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَخَرَقُواْ لَهُ} أي افتعلوا وافتروا له سبحانه، قال الفراء: يقال: خلق الإفك واختلقه وخرقه واخترقه بمعنى.
ونقل عن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله.
وقال الراغب أصل الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تفكر ولا تدبر.
ومنه قوله تعالى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف: 71] وهو ضد الخلق فإنه فعل الشيء بتقدير ورفق والخرق بغير تقدير قال تعالى: {وَخَرَقُواْ لَهُ} أي حكموا بذلك على سبيل الخرق وباعتبار القطع.
وقرأ نافع {وَخَرَقُواْ} بتشديد الراء للتكثير.
وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم {وحرفوا} من التحريف أي وزوروا له.
{لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} فقالت اليهود؛ عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله وقالت العرب الملائكة بنات الله والله سبحانه منزه عما قالواه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بحقيقته من خطأ أو صواب ولا فكر ولا روية فيه بل قالوه عن عمى وجهالة أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة بالمحل البعيد.
وأيًا ما كان فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالًا من الواو أو نعت لمصدر مؤكد أي خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقًا كائنًا بغير علم والمقصود على الوجهين ذمهم بالجهل، وقيل: إن ذلك كناية عن نفي ما قالوا فإن ما لا أصل له لا يكون معلومًا ولا يقام عليه دليل، ولا حاجة إليه إذ نفيه معلوم من جعله اختلاقًا وافتراء ومن قوله عز وجل: {سبحانه وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ} من أن له جل شأنه شريكًا أو ولدًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {وخرّقوا} عطف على جملة: {وجعلوا} والضّمير عائد على المشركين.
وقرأ الجمهور {وخَرَقوا} بتخفيف الرّاء، وقرأه نافع، وأبو جعفر بتشديد الرّاء.
والخرق: أصله القطع والشقّ.
وقال الراغب: هو القطع والشقّ على سبيل الفساد من غير تدبّر، ومنه قوله تعالى: {أخَرَقْتها لتُغْرِق أهلَها} [الكهف: 71].
وهو ضدّ الخلق، فإنّه فعل الشّيء بتقدير ورفق، والخرق بغير تقدير.
ولم يقيّده غيره من أئمّة اللّغة.
وأيًّا ما كان فقد استعمل الخرق مجازًا في الكذب كما استعمل فيه افترى واختلقَ من الفَرْي والخَلْق.
وفي الكشاف: سئل الحسن عن قوله تعالى: {وخرّقوا} فقال: كلمة عربيّة كانت العرب تقولها، كان الرّجل إذا كذب كذبة في نادى القوم يقول بعضهم: قد خَرَقها والله.
وقراءة نافع تفيد المبالغة في الفعل لأنّ التّفعل يدلّ على قوّة حصول الفعل.
فمعنى {خرّقوا} كذبوا على الله على سبيل الخرق، أي نسبوا إليه بنين وبناتتٍ كذبًا، فأمّا نسبتهم البنين إلى الله فقد حكاها عنهم القرآن هنا.
والمراد أنّ المشركين نسبوا إليه بنين وبنات.
وليس المراد اليهود في قولهم: {عُزيز ابن الله} [التوبة: 30]، ولا النّصارى في قولهم: {المسيح ابنُ الله} [التوبة: 30].
كما فسّر به جميع المفسّرين، لأنّ ذلك لا يناسب السّياق ويشوّش عود الضّمائر ويخرم نظم الكلام.
فالوجه أنّ المراد أنّ بعض المشركين نسبوا لله البنين وهو الّذين تلقّنوا شيئًا من المجوسيّة لأنّهم لمّا جعلوا الشّيطان متولّدًا عن الله تعالى إذ قالوا إنّ الله لمّا خلق العالم تفكّر في مملكته واستعظمها فحصل له عُجب تولّد عنه الشّيطان، وربّما قالوا أيضًا: إنّ الله شكّ في قدرة نفسه فتولّد من شكّه الشّيطانُ، فقد لزمهم أنّ الشّيطان متولّد عن الله تعالى عمّا يقولون، فلزمهم نسبة الابن إلى الله تعالى.
ولعلّ بعضهم كان يقول بأنّ الجنّ أبناء الله والملائكة بنات الله، أو أنّ في الملائكة ذكورًا وإناثًا، ولقد ينجرّ لهم هذا الاعتقاد من اليهود فإنّهم جعلوا الملائكة أبناء الله.
فقد جاء في أوّل الإصحاح السّادس من سفر التّكوين وحدث لَمَّا ابتدأ النّاس يكثرون على الأرض ووُلد لهم بنات أنّ أبناءَ الله رأوا بنات النّاس أنّهن حسَنات فاتَّخذوا لأنفسهم نساء من كلّ ما اختاروا وإذ دخل بنو الله على بنات النّاس ووَلَدْن لهم أولادًا هؤلاء هم الجبابرة الّذين منذ الدّهر ذوو اسم.
وأمّا نسبتهم البنات إلى الله فهي مشهورة في العرب إذ جعلوا الملائكة إناثًا، وقالوا: هنّ بنات الله.
وقوله: {بغير علم} متعلّق بـ {خرّقوا}، أي اختلقوا اختلاقًا عن جهل وضلالة، لأنّه اختلاق لا يلتئم مع العقل والعِلم فقد رموا بقولهم عن عمى وجهالة.
فالمراد بالعلم هنا العلم بمعناه الصّحيح، وهو حُكمُ الذّهننِ المطابقُ للواقع عن ضرورةٍ أو برهاننٍ.
والباء للملابسة، أي ملابسًا تخريقُهم غيرَ العلم فهو متلبّس بالجهل بدءًا وغاية، فهم قد اختلقوا بلا داع ولا دليل ولم يجدوا لما اختلقوه ترويجًا، وقد لزمهم به لازمُ الخَطل وفسادِ القول وعدممِ التئامه، فهذا موقع باء الملابسة في الآية الّذي لا يفيد مُفادَه غيرُه. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {سبحانه} تنزيه لله عن كل ما لا يليق به.
وأما قوله: {وتعالى} فلا شك أنه لا يفيد العلو في المكان، لأن المقصود هاهنا تنزيه الله تعالى عن هذه الأقوال الفاسدة، والعلو في المكان لا يفيد هذا المعنى.
فثبت أن المراد هاهنا التعالي عن كل اعتقاد باطل.
وقول فاسد.
فإن قالوا: فعلى هذا التقدير لا يبقى بين قوله: {سبحانه} وبين قوله: {وتعالى} فرق.
قلنا: بل يبقى بينهما فرق ظاهر، فإن المراد بقوله سبحانه أن هذا القائل يسبحه وينزهه عما لا يليق به والمراد بقوله: {وتعالى} كونه في ذاته متعاليًا متقدسًا عن هذه الصفات سواء سبحه مسبح أو لم يسبحه، فالتسبيح يرجع إلى أقوال المسبحين، والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له لذاته لا لغيره. اهـ.

.قال أبو حيان:

{سبحانه وتعالى عما يصفون} نزه ذاته عن تجويز المستحيلات عليه والتعالى هنا هو الارتفاع المجازي ومعناه أنه متقدّس في ذاته عن هذه الصفات قيل: وبين {سبحانه وتعالى} فرق من جهة أن سبحان مضاف إليه تعالى فهو من حيث المعنى منزه و{تعالى} فيه إسناد التعالي إليه على جهة الفاعلية فهو راجع إلى صفات الذات سواء سبحه أحد أم لم يسبحه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {سبحانه وتعالى عمّا يصفون} مستأنفة تنزيهًا عن جميع ما حكي عنهم.
ف {سبحان} مصدر منصوب على أنّه بدل من فعله.
وأصل الكلام أسبّح الله سبحانًا.
فلمّا عُوّض عن فعله صار (سبحانَ الله) بإضافته إلى مفعوله الأصلي، وقد تقدّم في قوله تعالى: {قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا} في سورة [البقرة: 32].
ومعنى: {تعالى} ارتفع، وهو تفاعل من العلوّ.
والتّفاعل فيه للمبالغة في الاتّصاف.
والعلوّ هنا مجاز، أي كونُه لا ينقصه ما وصفوه به، أي لا يوصف بذلك لأنّ الاتّصاف بمثل ذلك نقص وهو لا يلحقه النّقص فشبّه التّحاشي عن النّقائص بالارتفاع، لأنّ الشّيء المرتفع لا تلتصق به الأوساخ الّتي شأنها أن تكون مطروحة على الأرض، فكما شبّه النّقص بالسفالة شبّه الكمالُ بالعُلوّ، فمعنى (تعالى عن ذلك) أنّه لا يتطرّق إليه ذلك.
وقوله: {عمّا يصفون} متعلّق بـ (عَنْ) للمجاوزة.
وقد دخلت على اسم الموصول، أي عن الّذي يصفونه.
والوصف: الخَبر عن أحوال الشّيء وأوصافه وما يتميّز به، فهو إخبار مبيِّن مُفصّل للأحوال حتّى كأنّ المخبَر يصف الشّيءَ وينْعته.
واختير في الآية فعل {يصفون} لأنّ ما نسبوه إلى الله يرجع إلى توصيفه بالشّركاء والأبناء، أي تباعد عن الاتّصاف به.
وأمّا كونهم وصفوه به فذلك أمر واقع. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)}.
ثم إنه سبحانه لما فرغ من تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال قدرته لتعلم أن حال المباحث العقلية والنقلية إنما هو معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله فقال: {أن الله فالق الحب والنوى} أي بالنبات والشجر. وعن مجاهد أراد الشقين اللذين في الحنطة والنواة، والفلق هو الشق. وعن ابن عباس والضحاك: الفلق هو الخلق. ووجه بأن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انشقاق، فإخراج الشيء من العدم إلى الوجود شق لذلك العدم وفلق بحسب التخيل والتعقل. واعلم أنه إذا وقعت الحبة والنواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله في أعلاها شقًا ومن أسفلها شقًا، أما العالي فيخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء، وأما الساقل فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة، وههنا عجائب منها: أن طبيعة الشجرة إن كانت تقتضي الهويّ في الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء وبالعكس.
فاتصال الشجرتين على التبادل ليس بمقتضى الطبع والخاصية بل بمقتضى إرادة الموجد المختار. ومنها أن باطن الأرض جسم صلب كثيف لا تنفذ فيه المسلة ولا السكين، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق مع غاية نعومتها تقوى على النفوذ والغوص في جرم الأرض، فحصول هذه القوّة الشديدة للجرم الضعيف ليس إلا بتقدير العزيز العليم. ومنها أنه يتولد من النواة شجرة ويحصل من الشجرة أغصان وأوراق وأزهار وأثمار، وللثمر قشر أعلى وقشر أسفل وفيه اللب، وفي اللب الدهن الذي هو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجرام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وطعومها وأشكالها مع تساوي تأثيرات النجوم والطبائع في المادة الواحدة يدل على وجود الفاعل المختار. ومنها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة، فالأترج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب، وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس، وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب. ومنها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة، فبعضها يكون لبه في الداخل وقشره في الخارج كالجوز واللوز، وبعضها يكون فاكهته المطلوبة في الخارج والخشبة في الداخل كالخوخ والمشمش، وبعضها يكون لنواها لب كالخوخ وقد لا يكون كالتمر، وبعض الفواكه يكون كله مطلوبًا كالتين. فهذه الأحوال المختلفة والأشكال المتخالفة. تتضمن حكمًا وفوائد لا يعلمها إلا مبدعها. ومنها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت في وسطها خطًا واحدًا مستقيمًا يشبه النخاع في بدن الإنسان ولا يزال يستدق حتى يخرج عن إدراك الحس، ثم ينفصل عن ذلك الخط خطوط دقائق أصغر من الأول، فكأنه سبحانه أوجد ذلك لتقوى به الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة. فإذا وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في إيجاد جملة تلك الشجرة أكثر، وعلمت أن عنايته بتخليق الحيوان الذي خلق النبات لأجله يكون أكمل، وكذا عنايته بحال الإنسان الذي خلق لأجله النبات والحيوان ويصير ذلك مرقاة لك إلى وجود الصانع الخبير الحكيم القدير.